فصل: مسألة التطاول في البنيان من أشراط الساعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة حكاية عن عمر بن الخطاب:

قال: وقال مالك: بلغني أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: أكون في منزلة لا أخاف في الله لومة لائم، قال عمر إن وليت من أمر الناس شيئا، وإلا فأمر بالمعروف وانه عن المنكر وأقبل على نفسك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين ليس فيه ما يشكل وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة ما جاء في بلال:

قال مالك: بلغني أن بلالا قال لأبي بكر لما ولي: ائذن لي نخرج إلى الشام في الجهاد، فقال أبو بكر: لا، فقال له بلال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله فخل سبيلي، فقال له أبو بكر: قد خليتك.
وسئل مالك هل أذن بلال لأحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: ما أذن لأحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد سمعت أنه أذن لعمر بن الخطاب حين دخل الشام، سأله ذلك فقام فأذن فبكى الناس وذكروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبكوا لذلك.
قال محمد بن رشد: قد روي أنه أذن لأبي بكر حياته، ذكر ابن عبد البر في كتاب الصحابة أن ابن شيبة ذكر عن حسين بن علي، عن شيخ يقال له الحفصي عن أبيه عن جده قال: أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أذن لأبي بكر حياته، ولم يؤذن في زمن عمر، فقال له عمر: ما منعك أن تؤذن؟ قال: إني أذنت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قبض، وأذنت لأبي بكر حتى قبض لأنه كان ولي نعمتي، وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا بلال ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله، فخرج فجاهد» ويقال إنه أذن لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذ دخل الشام مرة فبكى عمر وغيره من المسلمين، وبالله التوفيق.

.مسألة ما يسود الرجل به قومه:

فيما يسود الرجل به قومه قال: وقال مالك: بلغني أن معاوية بن أبي سفيان قال للأحنف بن قيس: بم شرفت قومك وأنت لست بأشرفهم ولا بأسنهم ولا بأيسرهم؟ فقال: إني لا أتناول ما كفيت، ولا أضيع ما وليت، فقيل له أو قال: لو وجدت الناس كرهوا شرب الماء ما شربته فقال: قد سمعت وليس هذه تشبه هاتين.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أتناول ما كفيت هو من معنى قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وقوله ولا أضيع ما وليت هو من معنى قول الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] والخصلة الثالثة هي من معنى قول النبي عليه السلام: «مداراة الناس صدقة» وصدق مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذه ليست تلحق بالأولين، فمن ترك ما لا يعنيه ووفى بما يلزمه الوفاء به وسالم الناس فقد حاز محاسن الأخلاق ومكارمها، واستحق بذلك السؤدد والشرف، وبالله التوفيق.

.مسألة تحري وقت قتال العدو:

في تحري وقت قتال العدو قال: وسألته هل بلغك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتحرى قتال العدو بعد زوال الشمس؟ فقال: ما بلغني وما كان قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل خيبر إلا في أول النهار حين قالوا وخرجوا بمساحيهم ومكايلهم، فقالوا: محمدا والخميس وما كان قتالهم يوم أحد إلا في أول النهار.
قال محمد بن رشد: روي «عن النعمان بن مقرن قال: شهدت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر» وروي عنه أنه «قال غزوت مع النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس قاتل إلى العصر ثم أمسك حتى يصلي العصر، ثم يقاتل، قال: وكان يقال عند ذلك تهيج ريح النصر ويدعو المؤمنون في صلاتهم» فهذا هو المروي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في هذا خرجه الترمذي لأنه كان يتحرى قتال العدو بعد زوال الشمس فلا يقاتل قبله، هذا الذي قال مالك إنه لم يبلغه والله أعلم.

.مسألة مخالطة اليتيم في النفقة:

17-
في مخالطة اليتيم في النفقة قال: وسئل مالك عن اليتيم يكون عند الرجل فيأخذ نفقته فيريد أن يخلطها بنفقته ويكون طعامهم واحدا كيف ترى فيه؟ قال:
لما أخبرك بالشأن فيه، إن كان يعلم أنه يفضل عليه وأن الذي ينال اليتيم من طعامه هو أكثر وأفضل من نفقته فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان لا ينال من ذلك الذي هو أفضل فلا يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا صحيح بين أخذه من قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] أي يعلم من يخالط اليتيم لينفعه بما يصيب اليتيم من طعامه زائدا على ما يصيب هو من طعام اليتيم، أو لينتفع هو بما يصيب من طعام اليتيم زائدا على ما يصيب اليتيم من طعامه.
وقد اختلف في السبب الذي من أجله سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اليتامى فأنزل الله في ذلك ما أنزل، فروي عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الآية. انطلق من كان عنده يتيم يعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم، وقد روى أن اتقاء مال اليتيم واجتنابه كان من أخلاق العرب، كانوا لا يأكلون معهم في قصعة واحدة ولا يركبون لهم بعيرا ولا يستخدمون لهم خادما، فلما جاء النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ سألوه عن ذلك فقال الله عز وجل: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] أي إن تفضلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم من غير مرزئة منكم لشيء من أموالهم خير لكم عند الله لما لكم في ذلك من الثواب عنده وخير لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، ثم قال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] أي إن تخلطوا أموالكم بأموالهم في المطاعم والمشارب وغير ذلك فينتفعون بمخالطتكم إياهم عوضا من قيامكم على أموالهم فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضا.
وقد اختلف أهل العلم فيما يحل للولي من مال يتيمه لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، بعد إجماعهم على أن أكل مال اليتيم ظلم من الكبائر لا يحل ولا يجوز، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
فأما الفقير المحتاج فلا اختلاف في أنه يسوغ له أن يأكل من مال يتيمه بعد اشتغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه، على ما جاء عن ابن عباس من قوله للذي سأله هل له أن يشرب من لبن إبل يتيمه: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتلط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب.
وأما إن لم يكن له فيه خدمة ولا عمل فلا يسوغ له أن يأكل منه إلا ما لا ثمن ولا قدر ولا قيمة مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه على ما قاله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا، ومثل الفاكهة من حائطه على ما قاله في أول سماع أشهب من هذا الكتاب.
ومن أهل العلم من أجاز له أن يأكل منه على سبيل السلف.
ومنهم من أجاز له أن يأكل منه ويكتسي بقدر حاجته وما تدعو إليه الضرورة، وليس عليه رد ذلك.
وأما الغني فإن لم يكن له في ماله خدمة ولا عمل سوى أنه يتفقده ويشرف عليه فليس له أن يأكل منه إلا ما لا قدر له ولا بال، مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه، والثمر يأكله من حائطه إذا دخله.
واختلف إذا كان له فيه خدمة وعمل فقيل: إن له أن يأكل منه بقدر عمله فيه وخدمته له، وقيل ليس ذلك له لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6].

.مسألة قول عمرلأسيد بن الحضير في ما كان يكسوه إياه:

في قول عمر لأسيد بن الحضير في ما كان يكسوه إياه قال: وحدثني مالك عن أسيد بن الحضير أن عمر بن الخطاب كان يكسوه الحلة فيبيعها ويشتري دونها ويشتري بفضل ذلك رقبة يعتقها، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فاشتد عليه ذلك، وقال: نكسو أحدهم الحلة ليعرف بها منزلته وفضله ثم يبيع ذلك، لينتهين عن ذلك أو لأتركنه فقال أسيد: يا عمر لأن أحدنا قدم لآخرته منعته حقه؟ قال: فقال عمر: لا والله ليعطين حقه.
قال محمد بن رشد: الحلل الثياب المبطنة أكثرها عندهم من البرود اليمانية، وأحب عمر بن الخطاب أو يلبس الحلل من كان يكسوه إياها وكره أن يستبدلها بأدنى منها لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» «وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي رآه قشف الهيئة: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال، قال: فلير عليك مالك»، وقال في صاحب جابر بن عبد الله الذي رآه يرعى ظهره وعليه بردان له قد خلقا «فقال لجابر بن عبد الله: أما له غيرهما؟ فقال: بلى، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، فقال: فادعه فمره فليلبسهما، فدعاه فلبسهما ثم ولى يذهب فقال رسول الله، ما له ضرب الله عنقه؟ فسمعه الرجل فقال: في سبيل الله يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في سبيل الله، فقتل الرجل في سبيل الله» وقال عمر بن الخطاب إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، وقال: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم.
ومضى قول عمر: لينتهن عن ذلك أو لأتركنه، أي لأتركن أن أكسو الحلل لمن يبيعها ولا يلبسها وأعطيه عوضها منها وأكسوها لمن يلبسها ولا يبيعها، وذلك بين من قوله: لا والله ليعطين حقه.
ولبس الثياب الحسان للجمال بها مباح جائز قال الله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية، وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنا قد وسع الله علينا فننال من كسوة وعطر ما لو شئنا اكتفينا بدونه، فما تقول؟ فقال:
أيها الرجل إن الله أدب أهل الإيمان فأحسن أدبهم فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وإن الله ما عذب أقواما أعطاهم الدنيا فشكروه، ولا عذر قوما زوى عنهم الدنيا فعصوه.
وقال بعض الحكماء: البسوا ثياب الملوك وأشعروا قلوبكم الخشية، وكان القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق يلبس الخز وسالم ابن عبد الله بن عمر يلبس الصوف وكانا يتجالسان في المسجد فلا ينكر واحد منهما على صاحبه لباسه، وقد كره العلماء من اللباس الشهرتين: وذلك الإفراط في البذاذة وفي الإسراف والغلو. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إن قوما جعلوا خشوعهم في لباسهم وكبرهم في صدورهم وشهروا أنفسهم بلباس هذا الصوف حتى إن أحدهم لما يلبس من الصوف أشد كبرا من صاحب المطرف بمطرفه، وقال رجل لإبراهيم النخعي: ما ألبس من الثياب؟ فقال: ما لا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند السفهاء ولهلال ابن العلاء وكان عالما:
أجد الثياب إذا اكتسيت فإنها ** زين الرجال بها تهاب وتكرم

ودع التواضع في اللباس تحريا ** فالله يعلم ما تكن وتكتم

فدني ثوبك لا يزيدك زلفة ** عند الإله وأنت عبد مجرم

.مسألة السرف في الإنفاق:

حكاية عن عمر بن الخطاب قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: لخرق الرجل أشد على من عدمه إنه ليستفيد المال بعد العدم، والخرق لا يقوم له شيء.
قال محمد بن رشد: قد بين عمر معنى قوله بما لا مزيد عليه؛ لأن الخرق السرف في الإنفاق الذي قد ذمه الله عز وجل، بدليل قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

.مسألة وقاية العرض بالمال:

في وقاية العرض بالمال قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب هو سمعت مالكا يقول: إن رجلا من أهل الفقه كانت عنده وديعة ليتيم كان يليها وإنها ضاعت، فباع مالا له ببضعة عشر ألفا ثم أداها، قيل له أفرأى الناس عليه ذلك؟ قال: لا، لم يروا ذلك عليه، ولكنه تطوع بذلك كراهية القالة والتماس تقوى الله وأن لا يجاحد لأحد شيئا، وما كان ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأنه من فعل أهل النزاهة والفضل، وبالله التوفيق.

.مسألة التطاول في البنيان من أشراط الساعة:

في أن التطاول في البنيان من أشراط الساعة قال: وقال مالك: بلغني أن من أشراط الساعة التطاول في البنيان ولقد أنكر الناس حين بنى عثمان داره هذا البناء ولقد أصاب الناس مطر في ذلك الزمان، فجاءه بعض من يعنيه أمره حين أصبح سأله عن بنيانه، كأنه خاف أن يكون قد انهدم عليه بنيانه.
قال محمد بن رشد: التطاول في البنيان مكروه، مذموم، بدليل ما جاء فيه أنه من أشراط الساعة، ولذلك أنكر الناس على عثمان حين بنى داره هذا البناء على ما ذكره مالك في هذه الرواية، وقد روي من رواية أنس بن مالك أن «رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج فرأى قبة مشرفة، فقال: ما هذه؟ فقال له أصحابه: هذه لرجل من الأنصار، فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس أعرض عنه، صنع ذلك به مرارا حتى عرف الرجل الغضب والإعراض عنه شكى ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أدري ما حدث لي وما صنعت، قالوا خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى قبتك، فسأل لمن هي، فأخبرناه، فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فلم يرها، فقال: ما فعلت القبة التي كانت هاهنا؟ فقالوا شكى صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها، فقال: أما إن كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا إلا ما لا» يريد بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ما إلا ما بني في غير ظلم ولا اعتداء بدليل ما روي من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غرسا في غير ظلم ولا اعتداء كان أجره له جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن»، فلا يجوز الاعتداء في البناء وهو التطاول فيه والعلو والسرف، وإنما يجوز منه ما كان بوجه السداد على قدر الحاجة.
والتطاول في البنيان من أشراط الساعة التي قد أعلم الله أنها قد جاءت بقوله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] معناه فما ينظرون إلا قيام الساعة بالنفخة الأولى التي أخبر الله أنه يطعن بها أي يموت من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أن تأتيهم فجأة فقد جاء أشراطها.
وأشراطها التي قد جاءت كثيرة.
فالنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من أشراطها قال عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة، أو جمع بين أصابعه الوسطى والسبابة على ما جاء في ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وانشقاق القمر في حياته عَلَيْهِ السَّلَامُ على ما جاءت به الآثار من أشراطها قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1].
ورمي الشياطين بالشهب في سماء الدنيا من أشراطها.
ومن أشراطها التي قد رأيناها أكبرها أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويخرب العامر ويعمر الخراب وتشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجال. ويكثر النساء حتى تكون لخمسين امرأة القيم الواحد، وأن يطلب العلم عند الأصاغر، وأن يوسد الأمر إلى غير أهله، فقد جاء أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سئل متى الساعة؟ فقال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» ومن أشراطها: أن يظهر الفحش والتفحش وقطيعة الرحم، ويسوء الجوار ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وأن يرى رعاء الشاء على رؤوس الناس، وأن يرى الحفاة العراة الجوع يتبارون في البنيان، وأن تلد الأمة ربتها وربها، وقد روي أن من أشراط الساعة أن يظهر العلم ويفيض المال، ويكثر التجار، وأن من أشراطها أن تقاتلوا قوما ينتعلون الشعر، وأن تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة فهذه الأشراط، وما روي مما هو في معناها أمارة تدل على قربها.
وأما أشراطها التي تكون بين يديها فعشرة، منها خمسة وقع العلم بها لتواتر الآثار بها، وهي يأجوج ومأجوج، والدابة، والدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها.
وأما الخمسة الأخرى: فخسفا بالمشرف، وخسفا بالمغرب، وخسفا بجزيرة العرب، والدخان، ونار تخرج من قعر عدن تميل معهم إذا مالوا وتروح معهم إذا راحوا، روي «عن أبي سريحة، قال: أشرف علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غرفة فقال: ما تذكرون؟ ما تقولون؟ قال: قلنا يا رسول الله الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا عشر آيات، فذكر هذه العشرة» والدخان الذي ذكر فيها هو غير الدخان المذكور في سورة الدخان قوله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] لأن ذلك الدخان قد مضى على ما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أن قريشا استعصت وكفرت فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والميتة، وقد كان الرجل يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] فكشف عنهم وقال: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فعادوا في كفرهم فأخذهم الله في يوم بدر، وقال: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] في هذا الحديث بيان واضح أن الدخان المذكور في الآية قد مضى، إذ لو كان في القيامة لم يكشف عنهم، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: خمس قد مضين، الدخان والقمر والدوم واللزام، وبالله التوفيق.

.مسألة تعريف المدية:

في أن المدية هي السكين قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة قال: ما كنا نسمي السكين إلا المدية حتى أنزل الله في كتابه سكينا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا إشكال فيه وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة تذكية ما يجعل في الترياق:

في تذكية ما يجعل في الترياق من الأفاعي قال: وذكر لمالك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الذين يعملون الترياق ألا يجعلوا فيه إلا ذكيا، فقيل له: أفترى لها ذكاة؟ قال: نعلم لمن ابتغى ذلك منها، فلها ذكاة إذا أصاب الموضع يريد المذبح.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن كل ما له لحم ودم سائل من الخشاش والدواب لا يؤكل إلا بذكاة لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] الآية وإنما اختلف في الخشاش التي ليس لها لحم ولا دم سائل، فقيل: لها حكم دواب البحر أنها تؤكل بغير ذكاة، وإنها لا تفسد ما مات فيه من طعام أو إدام، وهو قول عبد الوهاب في التلقين، وقيل: إنه لا يؤكل شيء من ذلك إذا احتيج إليه إلا أن يذكي بما يذكى به الجراد من قتلها بقطع رؤوسها أو أرجلها أو طرحها في المرعف أحياء، وفي التذكية للجراد اختلاف، إذ قد قيل: إنها من صيد البحر على ما جاء عن كعب من قوله والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره كل عام مرتين وقيل: إن أخذها ذكاتها.

.مسألة ما جاء من الأحاديث بخلاف ما عليه العمل:

في ما جاء من الأحاديث بخلاف ما عليه العمل قال: وقال مالك: كان رجال من أهل العلم يتحدثون بأحاديث وتبلغهم عن غيرهم فيقولون: ما نجهل هذا، ولكن مضى العمل على غير هذا، قال مالك: كان القاسم بن محمد لا يكاد يرد على أحد في مجلسه شيئا، قال: فتكلم ربيعة يوما فأكثر فصمت عنه، قال يحيى: فانصرف وانصرفت معه فتوكأ علي ثم قال: لا أبا لشأنك أرأيت ما كان يذكر هذا منذ اليوم؟ أين كان الناس عنه أترى الناس كانوا غافلين عما كان؟ يقول، يريد بذلك استنكارا لما كان من القول.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك أن العمل المتصل بالمدينة مقدم على أخبار الآحاد العدول؛ لأن المدينة دار النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وبها مات وأصحابه متوافرون، فيبعد أن يخفى الحديث عنهم ولا يمكن أن يتصل العمل به من الصحابة إلى من بعده على خلافه إلا وقد علموا النسخ فيه، وكذلك القياس عنده مقدم على خبر الآحاد إذا لم يمكن الجمع بينهما، والحجة في ذلك أن خبر الواحد يجوز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص، ولا يجوز على القياس من الفساد إلا وجه، وهو أن هذا الأصل هل هو معلول بهذه العلة أم لا؟ فصار أقوى من خبر الواحد، فوجب أن يقدم عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة التعوذ بكلمات الله:

في التعوذ بكلمات الله وذكر حديث النبي عليه السلام في أعوذ بكلمات الله التامات، فقالوا له: ثلاثا؟ فقال: ما سمعت إلا كذا، وثلاث أفضل.
قال محمد بن رشد: قوله وذكر حديث النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، يريد ذكر مالك حديثه الذي رواه في موطئه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن «رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمن أي شيء؟ قال: لدغتني عقرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما أنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك» فقالوا له: هل في الحديث أما أنك لو قلت ثلاثا حين أمسيت؟ فقال: ما سمعت إلا كذا، أي ما سمعت في الحديث ثلاثا وثلاث أفضل.
وليس في قوله أعوذ بكلمات الله التامات دليل على أنه له عز وجل كلمات غير تامات؛ لأن كلماته هي قوله، وكلامه صفة من صفات ذاته، يستحيل عليها النقص.
وفي الحديث بيان واضح على أن كلماته عز وجل عند مخلوقاته، إذ لا يستعاذ بمخلوق، وهذا هو قول أهل السنة، والحق أن كلام الله عز وجل صفة من صفات ذاته قديم غير مخلوق لأن الكلام هو المعنى القائم في النفس، والنطق به عبارة عنه، قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] فأخبر أن القول معنى يقوم في النفس، وتقول: في نفسي كلام أريد أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهوم من كلامه، وأما الذي يسمعه منه فهو عبارة عنه، وكذلك كلام الله عز وجل القديم الذي هو صفة من صفات ذاته هو المفهوم من قراءة القارئ لا نفس قراءته التي تسمعها؛ لأن نفس قراءته التي تسمعها محدثة لم تكن حتى قرأها فكانت، وهذا كله بين إلا لمن أعمى الله بصيرته عن الحق، وبالله التوفيق.

.مسألة بر الرجل بأمه:

في بر الرجل بأمه قال مالك: بلغني أن طلق بن حبيب كان برا بأمه وأنه لم يتقدمها قط في مسير، ولم يكن قط في أعلى منزل وهي أسفل منه، وأنه دخل عليها يوما فإذا هي تبكي من امرأته، فقال لها: فيم أبكتك؟ فقالت له: يا بني أنا أظلم منها، وأنا بدأتها، قال: لقد صدقت ولكن لا تطيب نفسي أن أحبس امرأة بكيت منها، وأنه وسعيد بن جبير ورجالا كانوا معهم طلبهم الحجاج فدخلوا الكعبة فأخذوا منها فقتلهم الحجاج.
قال محمد بن رشد: فعل طلق بن حبيب هذا نهاية منه في البر بأمه امتثالا منه لما أمر الله به من ذلك، قال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] أي أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وأمر بالوالدين إحسانا أي برا {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. قال مجاهد: إن بلغا أن يخريا أو يبولا فلا تقذرهما كما كانا لا يقذرانك وأنت صغير، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وإن وجدت منهما ريحا يؤذيك فلا تقل لهما أف، والأظهر أن معناه ولا تنفخ إن رأيت ما تكره، إظهارا منك لهما أنك تكره ذلك منهما، ومعنى وقل لهما قولا كريما أي لينا سهلا وقال عروة بن الزبير في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] معناه لا تمتنع من شيء أحباه، وروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى بعض أهل بيته فكان فيما أوصاه: «أطع والديك وإن أمراك أن تخرج عن كل شيء لك فافعل».